كثيرا ما يذكر الله في كتابه الكريم العذاب الأكبر، ويتوعد بالعذاب الشديد، فتتداعى على الذهن أسماء هذا العذاب كالحميم والزقوم والغسلين، وتنبعث في القلب صور السلاسل والأغلال والسرابيل والأصفاد، وترد على الفكر مشاهد الحساب والوزن والمساءلة والسوْق إلى الجحيم ... إلى آخر ما هنالك من مشاهد وصور ومواقف وعرصات، ترتعد منها قلوب الذين يخشون ربهم، وتوجل منها نفوس عمرت بطاعة الله، ولعمر الحق إن هذا الوعيد لكاف في ردع النفوس عن الهوى، وزجرها عن الردى.
ولكن تتقحم النفوس في شهواتها، وترتع في مراتع الغي، وتتجاوز الحدود الإلهية، فتجد أن الله سبحانه وتعالى يتوعد المعاندين والمفسدين بعذاب دون عذاب أكبر - لعل النفوس ترجع عن غيها، وتفيق من سكرتها - فيبين أنما أحلّه بالمعاندين من المثلات والنكال في الحياة الدنيا هو من العذاب الأدنى، فقال عز من قائل: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ( ).
فما العذاب الأدنى ؟ وما حقيقته؟ ولماذا ينزل؟ ومتى ينزل؟ ولماذا ينزل على قوم وينجو منه آخرون؟.
فالعذاب:هو النكال والعقوبة يقال: عذبته تعذيبا وعذابا.( )
وفي هذه الآية الكريمة التي عليها مدار البحث جاء لفظ الأدنى، للتعبير عن العذاب الدنيوي، ولفظ الأدنى يقابله الأقصى، والأكبر يقابله الأصغر, فما الحكمة في مقابلة الأدنى بالأكبر في سياق الآية هذه الكريمة؟ قال الفخر الرازي عفا الله عنه موضحا الحكمة من ذلك
حصل في عذاب الدنيا أمران: أحدهما أنه قريب، والآخر أنه قليل صغير , وحصل في عذاب الآخرة - أيضا- أمران: أحدهما أنه بعيد، والأخر أنه عظيم كثير , لكن القرب في عذاب الدنيا هو الذي يصلح للتخويف به , فإن العذاب العاجل و إن كان قليلا قد يحترز منه بعض الناس أكثر مما يحترز من العذاب الشديد إذا كان آجلا , وكذا الثواب العاجل قد يرغب فيه بعض الناس، ويستبعد الثواب العظيم الآجل، وأما في عذاب الآخرة فالذي يصلح للتخويف به هو العظيم والكبير، لا البعيد لما بيّنا، فقال في عذاب الدنيا العذاب الأدنى ؛ ليحترز العاقل عنه، ولو قال: لنذيقنهم من العذاب الأصغر ما كان يحترز عنه؛ لصغره وعدم فهم كونه عاجلا، وقال في عذاب الآخرة: الأكبر؛ لذلك المعنى